فصل: الجزء السادس والعشرون

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


الجزء السادس والعشرون

سورة الأحقاف

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏‏}‏

تقدم القول في نظيره في أول سورة غافر‏.‏ وهذه جملة مستقلّة مثل نظائرها من الحروف المقطعة في أوائل من سور القرآن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

تقدم القول في نظيره في أول الجاثية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

لما كان من أهم ما جاء به القرآن إثباتُ وحدانية الله تعالى، وإثباتُ البعث والجزاء، لتوقف حصول فائدة الإنذار على إثباتهما، جُعِل قوله‏:‏ ‏{‏تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 2‏]‏ تمهيداً للاستدلال على إثبات الوحدانية والبعث والجزاء، فجُعل خلق السماوات والأرض محل اتفاق، ورتب عليه أنه ما كان ذلك الخَلق إلا ملابساً للحق، وتقتضي ملابسته للحق أنه لا يكون خلْقاً عبثاً بل هو دال على أنه يعقبه جزاء على ما يفعله المخلوقون‏.‏ واستثناءُ ‏{‏بالحق‏}‏ من أحوال عامة، أي ما خلقناهما إلا في حالة المصاحبة للحق‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والذين كفروا عما أنذروا معرضون‏}‏ في موضع الحال من الضمير المقدر في متعلّق الجار والمجرور من قوله‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏، فيكون المقصود من الحال التعجيب منهم وليس ذلك عطفاً لأن الإخبار عن الذين كفروا بالإعراض مستغنى عنه إذ هو معلوم، والتقدير‏:‏ إلا خلقاً كائناً بملابسة الحق في حال إعراض الذين كفروا عما أنذروا به مما دل عليه الخلق بالحق‏.‏

وصاحب الحال هو ‏{‏السماوات والأرض‏}‏، والمعنى‏:‏ ما خلقناهما إلا في حالة ملابسة الحق لهما وتعيين أجل لهما‏.‏ وإعراض الذين كفروا عما أنذروا به من آيات القرآن التي تذكرهم بما في خلق السماوات والأرض من ملابسة الحق‏.‏

وعطف ‏{‏وأجل مسمى‏}‏ على ‏{‏بالحق‏}‏، عطفُ الخاص على العام للاهتمام به كعطف جبريل وميكائيل على ملائكته في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وملائِكتهِ ورسله وجبريل وميكائيل‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏98‏)‏ لأن دلالة الحدوث على قبول الفناء دلالة عقلية فهي ممّا يقتضيه الحق، وأن تعرض السماوات والأرض للفناء دليل على وقوع البعث لأن انعدام هذا العالم يقتضي بمقتضى الحكمة أن يخلفه عالم آخر أعظم منه، على سنة تدرج المخلوقات في الكمال، وقد كان ظن الدهريين قدمَ هذا العالم وبقاءَه أكبر شبهة لهم في إنكارهم البعث ‏{‏وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيَا وما يُهلكنا إلا الدهر‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 24‏]‏‏.‏ فالدهر عندهم متصرف وهو باق غير فان، فلو جوزوا فناء هذا العالم لأمكن نزولهم إلى النظر في الأدلة التي تقتضي حياة ثانية‏.‏ فجملة ‏{‏والذين كفروا عما أنذروا معرضون‏}‏ مرتبطة بالاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا بالحق‏}‏، أي هم معرضون عما أنذروا به من وعيد يوم البعث‏.‏

وحذف العائد من الصلة لأنه ضمير منصوب ب ‏{‏أنذروا‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ عما أنذروه معرضون‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏ما‏}‏ مصدرية فلا يقدر بعدها ضمير‏.‏ والتقدير عن إنذارهم معرضون فشمل كل إنذار أنذروه‏.‏

وتقديم ‏{‏عما أنذروا‏}‏ على متعلقه وهو ‏{‏معرضون‏}‏ للاهتمام بما أنذروا ويتبع ذلك رعاية الفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

انتقل إلى الاستدلال على بطلان نفي صفة الإلهية عن أصنامهم‏.‏ فجملة ‏{‏قل أرأيتم ما تدعون‏}‏ أمر بإلقاء الدليل على إبطال الإشراك وهو أصل ضلالهم‏.‏

وجَاء هذا الاستدلالُ بأسلوب المناظرة فجُعل النبي صلى الله عليه وسلم مواجهاً لهم بالاحتجاج ليكون إلجاءً لهم إلى الاعتراف بالعجز عن معارضة حجته، وكذلك جرى الاحتجاج بعده ثلاث مرات بطريقة أمر التعجيز بقوله‏:‏ ‏{‏أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أيتوني بكتاب‏}‏ الآية‏.‏ و‏{‏أرأيتم‏}‏ استفهام تقريري فهو كناية عن معنى‏:‏ أخبروني، وقد تقدم في سورة الأنعام ‏(‏40‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون‏}‏

وقوله‏:‏ أروني‏}‏ تصريح بما كنى عنه طريق التقرير لقوله‏:‏ ‏{‏أرأيتم ما تدعون‏}‏ وموقع جملة ‏{‏أروني‏}‏ في موقع المفعول الثاني لفعل ‏{‏أرأيتم‏}‏‏.‏

والأمر في ‏{‏أروني ماذا خلقوا من الأرض‏}‏ مستعمل في التسخير والتعجيز كناية عن النفي إن لم يخلقوا من الأرض شيئاً فلا تستطيعوا أن تُروني شيئاً خلقوه في الأرض، وهذا من رؤوس مسائل المناظرة، وهو مطالبة المدّعي بالدليل على إثبات دعواه‏.‏ و‏{‏ماذا‏}‏ بمعنى ما الذي خلقوه، ف ‏(‏ما‏)‏ استفهامية، و‏(‏ذا‏)‏ بمعنى الذي‏.‏ وأصله اسم إشارة ناب عن الموصول‏.‏ وأصل التركيب‏:‏ ماذا الذي خلقوا، فاقتصر على اسم الإشارة وحذف اسم الموصول غالباً في الكلام وقد يظهر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من ذَا الذي يشفع عنده‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 255‏]‏‏.‏ ولهذا قال النحاة‏:‏ إن ‏(‏ذا‏)‏ بعد ‏(‏ما‏)‏ أو ‏(‏مَن‏)‏ الاستفهاميتين بمنزلة ‏(‏مَا‏)‏ الموصولة‏.‏

والاستفهامُ في ‏{‏ماذا خلقوا‏}‏ إنكاري‏.‏ وجملة ‏{‏ماذا خلقوا‏}‏ بدل من جملة ‏{‏أروني‏}‏ وفعل الرؤية معلق عن العمل بورود ‏{‏ما‏}‏ الاستفهامية بعده، وإذا لم يكن شيء من الأرض مخلوقاً لهم بطل أن يكونوا آلهة لِخروج المخلوقات عن خَلقهم، وإذا بطل أن يكون لها خلق بطل أن يكون لها تصرف في المخلوقات كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يُخلقون ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسَهم ينصرون‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏191، 192‏)‏‏.‏

وأم‏}‏ حرف إضراب انتقالي‏.‏ والاستفهام المقدر بعد ‏{‏أم‏}‏ المنقطعة استفهام إنكاري أي ليس لهم شرك مع الله في السماوات‏.‏ وإنما أوثر انتفاء الشِركة بالنسبة للشركة في السماوات دون انتفاء الخلق كما أوثر انتفاء الخلق بالنسبة إلى الأرض لأن مخلوقات الأرض مشاهدة للناس ظاهر تطورها وحدوثها وأن ليس لما يدعونهم دون الله أدنى عمل في إيجادها، وأما الموجودات السماوية فهي محجوبة عن العيون لا عهد للناس بظهور وجودها ولا تطورها فلا يحسن الاستدلال بعدم تأثير الأصنام في إيجاد شيء منها ولكن لمّا لم يدّع المشركون تصرفاً للأصنام إلا في أحوال الناس في الأرض من جلب نفع أو دفع ضر اقتصر في نفي تصرفهم في السماوات على الاستدلال بنفي أن يكون للأصنام شركة في أمور السماوات لأن انتفاء ذلك لا ينازعون فيه‏.‏

وتقدم نظير هذه الآية في سورة فاطر ‏(‏40‏)‏ ‏{‏قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله‏}‏ الآية فانظر ذلك‏.‏

ثم انتقل من الاستدلال بالمشاهدة وبالإقرار إلى الاستدلال بالأخبار الصادقة بقوله‏:‏ ائتوني بكتاب من قبل هذا‏}‏ فجملة ‏{‏ائتوني بكتاب‏}‏ في موقع مفعول ثان لفعل ‏{‏أرأيتم‏}‏، كرر كما يتعدد خبر المبتدأ‏.‏ ومناط الاستدلال أنه استدلال على إبطال دعوى المدعي بانعدام الحجة على دعواه ويسمى الإفحام كما تقدم‏.‏ والمعنى‏:‏ نفي أن يكون لهم حجة على إلهية الأصنام لا بتأثيرها في المخلوقات، ولا بأقوال الكتب، فهذا قريب من قوله في سورة فاطر ‏(‏40‏)‏ ‏{‏أم آتيناهم كتاباً فهم على بينة منه‏}‏ والمراد ب ‏(‏كتاب‏)‏ أيُّ كتاب من الكتب المقروءة‏.‏ وهذا قاطع لهم فإنهم لا يستطيعون ادعاء أن لأصنامهم في الكتب السابقة ذِكراً غير الإبطال والتحذير من عبادتها، فلا يوجد في الكتب إلا أحد أمرين‏:‏ إمّا إبطال عبادة الأصنام كما في الكتب السماوية، وإمّا عدم ذكرها البتة ويدل على أن المراد ذلك قوله بعده‏:‏ أو أثارة من علم‏}‏‏.‏

والإتيان مستعار للإحضار ولو كان في مجلسهم على ما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتوا بسورة من مثله‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏23‏)‏‏.‏

والإشارة في قوله‏:‏ من قبل هذا‏}‏ إلى القرآن لأنه حاضر في أذهان أصحاب المحاجة فإنه يُقرأ عليهم معاودة‏.‏ ووجه تخصيص الكتاب بوصف أن يكون من قبل القرآن ليسد عليهم باب المعارضة بأن يأتوا بكتاب يُصنع لهم، كمَا قالوا‏:‏ ‏{‏لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 31‏]‏‏.‏

و ‏{‏أثارة‏}‏ بفتح الهمزة‏:‏ البقية من الشيء‏.‏ والمعنى‏:‏ أو بقية بقيت عندكم تروونها عن أهل العلم السابقين غير مسطورة في الكتب‏.‏ وهذا توسيع عليهم في أنواع الحجة ليكون عجزهم عن الإتيان بشيء من ذلك أقطع لدعواهم‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ إلهاب وإفحام لهم بأنهم غير آتين بحجة لا من جانب العقل ولا من جانب النقل المسطور أو المأثور، وقد قال تعالى في سورة القصص ‏(‏50‏)‏ ‏{‏فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم‏.‏‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

اعتراض في أثناء تلقين الاحتجاج، فلما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحاجّهم بالدليل وجّه الخطاب إليه تعجيباً من حالهم وضلالهم لأن قوله‏:‏ ‏{‏وإذا حُشر الناس كانوا لهم أعداء‏}‏ الخ لا يناسب إلا أن يكون من جانب الله‏.‏

و ‏{‏مَن‏}‏ استفهامية، والاستفهام إنكار وتعجيب‏.‏ والمعنى‏:‏ لا أحد أشدّ ضلالاً وأعجب حالاً ممن يدعون من دون الله من لا يستجيب له دعاءه فهو أقصى حد من الضلالة‏.‏ ووجه ذلك أنهم ضلوا عن دلائل الوحدانية وادّعوا لله شركاء بلا دليل واختاروا الشركاء من حجارة وهي أبعد الموجودات عن قبول صفات الخلق والتكوين والتصرف ثم يدعونها في نوائبهم وهم يشاهدون أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تجيب ثم سمعوا آيات القرآن توضح لهم الذكرى بنقائص آلهتهم، فلم يعتبروا بها وزعموا أنها سحر ظاهر فكان ضلالهم أقصى حد في الضلال‏.‏

و ‏{‏من لا يستجيب‏}‏ الأصنام عُبّر عن الأصنام باسم الموصول المختص بالعقلاء معاملة للجماد معاملة العقلاء إذْ أسند إليها ما يسند إلى أولي العلم من الغفلة، ولأنه شاع في كلام العرب إجراؤها مجرى العقلاء فكثرت في القرآن مجاراة استعمالهم في ذلك، ومثلُ هذا جعل ضمائر جمع العقلاء في قوله‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏غافلون‏}‏ وهي عائدة إلى ‏{‏من لا يستجيب‏}‏‏.‏

وجَعْلُ يوم القيامة غايةً لانتفاء الاستجابة‏.‏ كنايةٌ عن استغراق مدة بقاء الدنيا‏.‏ وعبر عن نهاية الحياة الدنيا ب ‏{‏يوم القيامة‏}‏ لأن الموَاجه بالخبر هو الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون كما علمت وهم يثبتون يوم القيامة‏.‏

وضميرا ‏{‏كانوا‏}‏ في الموضعين يجوز أن يَعودا إلى ‏{‏ممن يدعو من دون الله‏}‏ فإن المشركين يعادُون أصنامهم يوم القيامة إذ يجدونها من أسباب شقائهم‏.‏ ويجوز أن يعودا إلى ‏{‏من لا يستجيب له‏}‏ فإن الأصنام يجوز أن تعطى حياة يومئذٍ فتنطق بالتبرّي عن عُبادها ومن عبادتهم إياها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم القيامة يكفرون بشرككم‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 14‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلّوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نَسُوا الذكر وكانوا قوماً بُوراً فقد كذبوكم بما تقولون‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 17 19‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين‏}‏ جارياً على التشبيه البليغ لمشابهتها للأعداء والمنكرين للعبادة في دلالتها على ما يفضي إلى شقائهم وكذبهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما زادوهم غير تتبيب‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏‏.‏

وعطف جملة ‏{‏وإذا حشر الناس‏}‏ الخ على ما قبلها لمناسبة ذكر يوم القيامة‏.‏ ومن بديع تفنن القرآن توزيع معاد الضمائر في هذه الآية مع تماثلها في اللفظ وهذا يتدرج في محسِّن الجمع مع التفريق وأدق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 5‏]‏، وقد علمت أن هذا مسوق مساق العَد لوجوه فرط ضلالهم فإن آيات القرآن تتلى عليهم صباحَ مساءَ تبين لهم دلائل خلوّ الأصنام عن مقومات الإلهية فلا يتدبرونها وتحدُو بهم إلى الحق فيغالطون أنفسهم بأن ما فهموه منها تأثر سحري، وأنها سحر، ولم يكتفوا بذلك بل زادوا بهتاناً فزعموا أنه مبين، أي واضح كونه سحراً‏.‏ وهذا انتقال إلى إبطال ضلال آخر من ضلالهم وهو ضلال التكذيب بالقرآن فهو مرتبط بقوله‏:‏ ‏{‏حم تنزيل الكتاب من الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 1، 2‏]‏ الخ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الذين كفروا‏}‏ إظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالكفر وبأنه سبب قولهم ذلك‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏للحق‏}‏ لام العلة وليست لام تعدية فعل القول إلى المقول له أي قال بعض الكافرين لبعض في شأن الذين آمنوا ومن أجل إيمانهم‏.‏ والحق‏:‏ هو الآيات، فعدل عن ضمير الآيات إلى إظهار لفظ الحق للتنبيه على أنها حق وأن رميها بالسحر بهتان عظيم‏.‏ و‏{‏لما جاءهم‏}‏ توقيت لمقالتهم، أي يقولون ذلك بفور سماع الآيات وكلما جاءتهم، أي دون تدبر ولا إجالة فكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

إضراب انتقال إلى نوع آخر من ضَلال أقوالهم‏.‏ وسلك في الانتقال مسلك الإضراب دون أن يكون بالعطف بالواو لأن الاضراب يفيد أن الغرض الذي سينتقل إليه له مزيد اتصال بما قبله، وأن المعنى‏:‏ دَعْ قولهم‏:‏ ‏{‏هذا سحر مبين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 7‏]‏، واستمع لما هو أعجب وهو قولهم‏:‏ ‏{‏افتَراه‏}‏، أي افترى نسبته إلى الله ولم يرد به السحر‏.‏

والاستفهام الذي يقدر بعد ‏{‏أم‏}‏ للإنكار على مقالتهم‏.‏ والنفي الذي يقتضيه الاستفهام الانكاري يتسلط على سبب الانكار، أي كون القرآن مفترى وليس متسلطاً على نسبة القول إليهم لأنه صادر منهم وإنما المنفي الافتراء المزعوم‏.‏

والضمير المنصوب في ‏{‏افتراه‏}‏ عائد إلى الحق في قوله‏:‏ ‏{‏قال الذين كفروا للحق‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 7‏]‏، أو إلى القرآن لعلمه من المقام، أي افترى القرآن فزعم أنه وحي من عند الله‏.‏

وقد أمِر الرسول صلى الله عليه وسلم بجواب مقالتهم بما يقلعها من جذرها، فكان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ جملة جارية مجرى جواب المقاولة لوقوعها في مقابلة حكاية قولهم‏.‏ وقد تقدم ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ في أوائل سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏

وجعل الافتراء مفروضاً بحرف إن‏}‏ الذي شأنه أن يكون شرطه نادر الوقوع إشارة إلى أنه مفروض في مقام مشتمل على دلائل تقلع الشرط من أصله‏.‏

وانتصب ‏{‏شيئاً‏}‏ على المفعولية لفعل ‏{‏تملكون‏}‏، أي شيئاً يملك، أي يستطاع، والمراد‏:‏ شيء من الدّفع فلا تقدرون على أن تردوا عني شيئاً يَرد علي من الله‏.‏ وتقدم معنى ‏(‏لا أملك شيئاً‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم‏}‏ في سورة العقود ‏(‏17‏)‏‏.‏

والتقدير‏:‏ إن افتريته عاقبني الله معاقبة لا تملكون ردها‏.‏ فقوله‏:‏ فلا تملكون لي من الله شيئاً‏}‏ دليل على الجواب المقدر في الكلام بطريق الالتزام، لأن معنى ‏{‏لا تملكون لي‏}‏ لا تقدرون على دفع ضر الله عني، فاقتضى أن المعنى‏:‏ إن افتريته عاقبني الله ولا تستطيعون دفع عقابه‏.‏

واعلم أن الشائع في استعمال ‏(‏لا أملك لك شيئاً‏)‏ ونحوه أن يسند فعل الملك إلى الذي هو مظنة للدفع عن مدخول اللام المتعلقة بفعل الملك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 188‏]‏ وقوله ‏{‏وما أملك لك من الله من شيء‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏:‏ 4‏]‏، أو أن يسند إلى عامّ نحو ‏{‏قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم‏}‏، فإسناد فعل الملك في هذه الآية إلى المخاطبين وهم أعداء النبي صلى الله عليه وسلم وليسوا بمظنة أن يدفعوا عنه، لأنهم نصبوا أنفسهم في منصب الحُكم على النبي صلى الله عليه وسلم فجزموا بأنه افترى القرآن فحالهم حال من يزعم أنه يستطيع أن يرد مراد الله تعالى على طريقة التهكم‏.‏

واعلم أن وجه الملازمة بين الشرط وجوابه في قوله‏:‏ ‏{‏إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً‏}‏ أن الله لا يقرّ أحداً على أن يبلِّغ إلى الناس شيئاً عن الله لَمْ يأمره بتبليغه، وقد دلّ القرآن على هذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو تَقَوَّلَ علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 44 47‏]‏‏.‏ ولعل حكمة ذلك أن التقول على الله يفضي إلى فساد عظيم يختل به نظام الخلق، والله يَغار على مخلوقاته وليس ذلك كغيره من المعاصي التي تجلبها المظالمُ والعبث في الأرض لأن ذلك إقدام على ما هو معلوم الفساد لا يخفى على الناس فهم يدفعونه بما يستطيعون من حول وقوة، أو حيلة ومصانعة‏.‏ وأما التقول على الله فيوقع الناس في حيرة بماذَا يتلقَّوْنه فلذلك لا يُقره الله ويزيله‏.‏

وجملة ‏{‏هم أعلم بما تفيضون فيه‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏فلا تملكون لي من الله شيئاً‏}‏ لأن جملة ‏{‏فلا تملكون لي‏}‏ تشتمل على معنى أن الله لا يرضى أن يفتري عليه أحد، وذلك يقتضي أنه أعلم منهم بحال من يُخير عن الله بأنه أرسله وما يبلغه عن الله‏.‏ وذلك هو ما يخوضون فيه من الطعن والقدح والوصف بالسحر أو بالافتراء أو بالجنون، فمَا صْدَقُ ‏(‏ما‏)‏ الموصولة القرآن الذي دلّ عليه الضمير الظاهر في ‏{‏افتراه‏}‏ أو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي دل عليه الضمير المستتر في ‏{‏افتراه‏}‏ أو مجموع أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم التي دل عليها مختلف خوضهم‏.‏ ومتعلق اسم التفضيل محذوف، أي هو أعلم منكم‏.‏ والإفاضة في الحديث‏:‏ الخوض فيه والإكثار منه وهي منقولة من‏:‏ فاض الماء؛ إذا سال‏.‏ ومنه حديث مستفيض مشتهر شائع، والمعنى‏:‏ هو أعلم بحال ما تفيضون فيه‏.‏

وجملة ‏{‏كفى به شهيداً بيني وبينكم‏}‏ بدل اشتمال من جملة ‏{‏هو أعلم بما تفيضون فيه‏}‏ لأن الاخبار بكونه أعلم منهم بكنه ما يفيضون فيه يشتمل على معنى تفويض الحكم بينه وبينهم إلى الله تعالى‏.‏ وهذا تهديد لهم وتحذير من الخوض الباطل ووعيد‏.‏

والشهيد‏:‏ الشاهد، أي المخبر بالواقع‏.‏ والمراد به هنا الحَاكم بما يعلمه من حالنا كما دلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏بيني وبينكم‏}‏ لأن الحكم يكون بين خصمين ولا تكون الشهادة بينهما بل لأحدهما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجئنا بك على هؤلاء شهيدا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وإجراء وصفي ‏{‏الغفور الرحيم‏}‏ عليه تعالى اقتضاه ما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏كفى به شهيداً بيني وبينكم‏}‏ من التهديد والوعيد، وهو تعريض بطلب الإقلاع عما هم فيه من الخوض بالباطل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

أعيد الأمر بأن يقول ما هو حجة عليهم لما علمت آنفاً في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم ما تدعون من دون الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 4‏]‏ الآيات‏.‏ وهذا جواب عما تضمنه قولهم‏:‏ ‏{‏افتراه‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 8‏]‏ من إحالتهم صدقه فيما جاء به من الرسالة عن الله إحالة دعتهم إلى نسبة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء على الله‏.‏ وإنما لم يعطف على جملة ‏{‏قل إن افتريته‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 8‏]‏ لأن المقصود الارتقاء في الرد عليهم من ردّ إلى أقوى منه فكان هذا كالتعدد والتكرير، وسيأتي بعده قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ونظير ذلك ما في سورة المؤمنين ‏(‏81 84‏)‏ ‏{‏بل قالوا مثل ما قال الأولون إلى قل لمن الأرضُ ومَن فيها إن كنتم تعلمون وقولِه قل من رب السماوات السبع‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 86‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل من بيده ملكوت كل شيء‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 88‏]‏ الخ‏.‏

والبِدع بكسر الباء وسكون الدال، معناه البَديع مثل‏:‏ الخِفّ يعني الخفيف قال امرؤ القيس‏:‏

يزل الغلام الخف عن صواته *** ومنه‏:‏ الخِلّ بمعنى الخليل‏.‏ فالبِدْع‏:‏ صفة مشبهة بمعنى البَادع، ومن أسمائه تعالى‏:‏ «البديع» خالق الأشياء ومخترعها‏.‏ فالمعنى‏:‏ ما كنت محدثاً شيئاً لم يكن بين الرسل‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ ابتدائية، أي ما كنت آتياً منهم بديعاً غير مماثل لهم فكما سمعتم بالرسل الأولين أخبروا عن رسالة الله إياهم فكذلك أنا فلماذا يعجبون من دعوتي‏.‏ وهذه الآية صالحة للرد على نصارى زماننا الذين طعنوا في نبوته بمطاعن لا منشأ لها إلا تضليلٌ وتمويه على عامتهم لأن الطاعنين ليسوا من الغباوة بالذين يخفى عليهم بهتانهم كقولهم إنه تزوج النساء، أو أنه قاتل الذين كفروا، أو أنه أحبّ زينب بنت جحش‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم‏}‏ تتميم لقوله‏:‏ ‏{‏قل ما كنت بدعاً من الرسل‏}‏ وهو بمنزلة الاعتراض فإن المشركين كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن مغيبات استهزاء فيقول أحدهم إذا ضلَّت ناقته‏:‏ أين ناقتي‏؟‏ ويقول أحدهم‏:‏ مَن أبي، أو نحو ذلك فأمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم بأنه لا يدري ما يفعل به ولا بهم، أي في الدنيا، وهذا معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنتُ أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 188‏]‏‏.‏

ولذلك كان قوله‏:‏ ‏{‏إن أتبع إلا ما يوحى‏}‏ استئنافاً بيانياً وإتماماً لما في قوله‏:‏ ‏{‏وما أدرى ما يفعل بي ولا بكم‏}‏ بأن قصارى ما يدريه هو اتباع ما يُعلمه الله به فهو تخصيص لعمومه، ومثل علمه بأنه رسول من الله وأن المشركين في النار وأن وراء الموت بعثا‏.‏ ومثل أنه سيهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين، ومثل قوله تعالى‏:‏

‏{‏إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1‏]‏، ونحو ذلك مما يرجع إلى ما أطلعه الله عليه، فدع ما أطال به بعض المفسرين هنا من المراد بقوله‏:‏ ‏{‏وما أدري ما يفعل بي ولا بكم‏}‏ ومن كونها منسوخة أو محكمة ومن حُكم نسخ الخبر‏.‏

ووجه عطف ‏{‏ولا بكم‏}‏ على ‏{‏بي‏}‏ بإقحام ‏(‏لا‏)‏ النافية مع أنهما متعلقان بفعل صلة ‏{‏ما‏}‏ الموصولة وليس في الصلة نفي، فلماذا لم يقل‏:‏ ما يفعل بي وبكم لأن الموصول وصلته لما وقعا مفعولاً للمنفي في قوله‏:‏ ‏{‏وما أدري‏}‏ تناول النفي ما هو في حيّز ذلك الفعل المنفي فصار النفي شاملاً للجميع فحسّن إدخال حرف النفي على المعطوف، كما حسُن دخول الباء التي شأنها أن تزاد فيجرَّ بها الاسم المنفي المعطوف على اسم ‏(‏إن‏)‏ وهو مُثبت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يَعْىَ بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 33‏]‏ لوقوع ‏{‏أنّ‏}‏ العاملة فيه في خبر النفي وهو ‏{‏أو لم يروا‏}‏ وكذلك زيادة ‏(‏مِن‏)‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يَودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن يُنزّل عليكم من خير‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 105‏]‏ فإن ‏{‏خيرٍ‏}‏ وقع معمولاً لفعل ‏{‏يُنزَّل‏}‏ وهو فعل مثبت ولكنه لما انتفت ودادتهم التنزيلَ صار التنزيل كالمنفي لديهم‏.‏

وعطف ‏{‏وما أنا إلا نذير مبين‏}‏ على جملة ‏{‏ما كنت بدعا من الرسل‏}‏ لأنه الغرض المسوق له الكلام بخلاف قوله‏:‏ ‏{‏وما أدري ما يفعل بي ولا بكم‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ وما أنا نذير مبين لا مُفْتَرٍ، فالقصر قصر إضافي، وهو قصر قلب لردّ قولهم ‏{‏افتراه‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآَمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

أعيد الأمر بأن يقول لهم حجة أخرى لعلها تردهم إلى الحق بعد ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم ما تَدعون من دون الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 4‏]‏ الآية وقوله‏:‏ ‏{‏قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 8‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قل ما كنت بدعا من الرسل‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 9‏]‏ الآية‏.‏

وهذا استدراج لهم للوصول إلى الحق في درجات النظر فقد بادأهم بأن ما أحالوه من أن يكون رسولاً من عند الله ليس بمحال إذ لم يكن أولَ الناس جاء برسالة من الله‏.‏ ثم أعقبه بأن القرآن إذا فرضنا أنه من عند الله وقد كفرتم بذلك كيف يكون حالكم عند الله تعالى‏.‏

وأقحم في هذا أنه لو شهد شاهد من أهل الكتاب بوقوع الرسالات ونزول الكتب على الرسل، وآمن برسالتي كيف يكون انحطاطكم عن درجته، وقد جاءكم كتاب فأعرضتم عنه، فهذا كقوله‏:‏ ‏{‏أو تقولوا لوْ أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدَى منهم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 157‏]‏، وهذا تحريك للهمم‏.‏ ونظير هذه الآية آية سورة فصّلت ‏(‏52‏)‏ ‏{‏قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد‏}‏ سوى أن هذه أقحم فيها قوله‏:‏ ‏{‏وشهد شاهد من بني إسرائيل‏}‏ فإن المشركين كانت لهم مخالطة مع بعض اليهود في مكة ولهم صلة بكثير منهم في التجارة بالمدينة وخيبر فلما ظهرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسألون من لَقوه من اليهود عن أمر الأديان والرسل فكان اليهود لا محالة يخبرون المشركين ببعض الأخبار عن رسالة موسى وكتابه وكيف أظهره الله على فرعون‏.‏ فاليهود وإن كانوا لا يقرّون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهم يتحدثون عن رسالة موسى عليه السلام بما هو مماثل لحال النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه وفيه ما يكفي لدفع إنكارهم رسالته‏.‏

فالاستفهام في ‏{‏أرأيتم‏}‏ تقريري للتوبيخ ومفعولاً ‏{‏أرأيتم‏}‏ محذوفان‏.‏ والتقدير‏:‏ أرأيتم أنفسكم ظالمين‏.‏ والضمير المستتر في ‏{‏إن كان‏}‏ عائد إلى القرآن المعلوم من السياق أو إلى ما يُوحَى إليّ في قوله آنفاً ‏{‏إن أتبع إلا ما يُوحَى إليّ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 9‏]‏‏.‏ وجملة ‏{‏وكفرتم به‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏أرأيتم‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون عطفاً على فعل الشرط‏.‏ وكذلك جملة ‏{‏وشهد شاهد من بني إسرائيل‏}‏ لأن مضمون كلتا الجملتين واقع فلا يدخل في حيز الشرط، وجواب الشرط محذوف دل عليه سياق الجدل‏.‏ والتقدير‏:‏ أفترون أنفسكم في ضلال‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ تذييل لجملة جواب الشرط المقدرة وهي تعليل أيضاً‏.‏ والمعنى‏:‏ أتظنون إن تبين أن القرآن وحي من الله وقد كفرتم بذلك فشهد شاهد على حَقّية ذلك تُوقنوا أن الله لم يهدكم لأنكم ظالمون وأن الله لا يهدي الظالمين‏.‏

وضميرا ‏{‏كان‏}‏ و‏{‏مثله‏}‏ عائدان إلى القرآن الذي سبق ذكره مرّات من قوله‏:‏ ‏{‏تنزيل الكتاب من الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ائتوني بكتاب من قبل هذا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏واستكبرتم‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وشهد شاهد‏}‏ الخ وجملة ‏{‏وشهد شاهد‏}‏ عطف على جملة ‏{‏إن كان من عند اللَّه‏}‏‏.‏

والمِثل‏:‏ المماثل والمشابه في صفة أو فعل، وضمير ‏{‏مثله‏}‏ للقرآن فلفظ ‏{‏مثله‏}‏ هنا يجوز أن يحمل على صريح الوصف، أي على مماثل للقرآن فيما أنكروه مما تضمنه القرآن من نحو توحيد الله وإثبات البعث وذلك المثل هو كتاب التوراة أو الزبور من كتب بني إسرائيل يومئذٍ‏.‏ ويجوز أن يحمل المِثل على أنه كناية عما أضيف إليه لفظ ‏(‏مثل‏)‏، فيكون لفظ ‏(‏مثل‏)‏ بمنزلة المقحم على طريقة قول العرب‏:‏ «مثلك لا يبخل»، وكما هو أحد محملين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فالمعنى‏:‏ وشهد شاهد على صدق القرآن فيما حواه‏.‏

ويجوز يكون ضمير ‏{‏مثله‏}‏ عائداً على الكلام المتقدم بتأويل المذكور، أي على مثل ما ذكر في أنه ‏{‏من عند الله‏}‏ وأنه ليس بدعا من كتب الرسل‏.‏

فالمراد ب ‏{‏شاهد من بني إسرائيل‏}‏ شاهدٌ غيرُ معين، أي أيَّ شاهد، لأن الكلام إنباء لهم بما كانوا يتساءلون به مع اليهود‏.‏ وبهذا فسر الشعبي ومسروق واختاره ابن عبد البر في «الاستيعاب» في ترجمة عبد الله بن سلام فالخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏أرأيتم‏}‏ وما بعده موجه إلى المشركين من أهل مكة، وقال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وعكرمة‏:‏ المراد ب ‏{‏شاهد من بني إسرائيل‏}‏ عبدُ الله بن سلاَم‏.‏ وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام أنه قال‏:‏ فيَّ نزلت آيات من كتاب الله ‏{‏وشهد شاهد من بني إسرائيل‏}‏ الآية‏.‏

ومثل قول قتادة ومجاهد وعكرمة روي عن ابن زيد ومالك بن أنس وسفيان الثوري ووقع في «صحيح البخاري» في باب فضل عبد الله بن سلام حديث عبد الله بن يوسف عن مالك عن سعد بن أبي وقاص قال‏:‏ وفيه نزلت هذه الآية ‏{‏وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله‏}‏ الآية، قال عبد الله بن يوسف‏:‏ لا أدري قال مالك‏:‏ الآية أو في الحديث‏.‏ قال مسروق‏:‏ ليس هو ابن سلام لأنه أسلم بالمدينة والسورة مكية، وقال الشعبي مثلَه‏.‏ ويجوز أن تكون الآية نزلت بالمدينة وأمر بوضعها في سورة الأحقاف، وعلى هذا يكون الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏أرأيتم‏}‏ وما بعده لأهل الكتاب بالمدينة وما حولها‏.‏ وعندي أنه يجوز أن يكون هذا إخباراً من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بما سيقع من إيمان عبد الله بن سَلام فيكون هو المراد ب ‏{‏شاهد من بني إسرائيل‏}‏ وإن كانت الآية مكية‏.‏

والظاهر أن مثل هذه الآية هو الذي جرّأ المشركين على إنكار نزول الوحي على موسى وغيره من الرسل فقالوا‏:‏ ‏{‏لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 31‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏ما أنزل الله على بشر من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ حين علموا أن قد لزمتهم الحجة بنزول ما سلف من الكتب قبل القرآن‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ تعليل للكلام المحذوف الدال عليه ما قبله ما علمته آنفاً، أي ضللتم ضلالاً لا يرجى له زوال لأنكم ظالمون والله لا يهدي القوم الظالمين‏.‏ وهذا تسجيل عليهم بظلمهم أنفسهم‏.‏ وجيء في الشرط بحرف ‏{‏إن‏}‏ الذي شأنه أن يكون في الشرط غير المجزوم بوقوعه مجاراة لحال المخاطبين استنزالاً لطائر جماحهم لينزلوا للتأمل والمحاورة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏الظالمين * وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ‏}‏‏.‏

هذا حكاية خطأ آخر من أخطاء حجج المشركين الباطلة وهو خطأ منشؤه الإعجاب بأنفسهم وغرورهم بدينهم فاستدلوا على أن لا خير في الإسلام بأن الذين ابتدروا الأخذ به ضعفاء القوم وهم يعدونهم منحطين عنهم، فهم الذين قالوا ‏{‏أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا‏}‏ كما تقدم في الأنعام ‏(‏53‏)‏، وهو نظير قول قوم نوح ‏{‏وما نراك اتبعك إلا الذين هم أرَاذِلُنا بادي الرأي‏}‏ ‏(‏هود 27‏)‏، ومناسبته لما قبله أنه من آثار استكبارهم فناسب قوله‏:‏ ‏{‏واستكبرتم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏للذين آمنوا‏}‏ لام التعليل متعلقة بمحذوف، هو حال من الذين كفروا تقديره‏:‏ مخصصين أو مريدين كاللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزَّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 156‏]‏، وقوله في الآية السابقة ‏{‏قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وليست هي لام تعدية فعل القول إلى المخاطب بالقول نحو ‏{‏ألمْ أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 72‏]‏ المسمّاة لام التبليغ‏.‏

والضمير المستتر في ‏{‏كان‏}‏ عائد إلى ما عد إليه ضمير ‏{‏إن كان من عند الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ وهو القرآن المفهوم من السياق أو ‏{‏ما يوحى إليّ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 9‏]‏‏.‏ والسبق أطلق على تحصيل شيء قبل أن يحصله آخر، شبّه بأسرع الوصول بين المتجارين، والمراد‏:‏ الأخذ بما جاء به القرآن من العقائد والأعمال‏.‏ وضمير الغيبة في قوله‏:‏ ‏{‏سبقونا‏}‏ عائد إلى غير مذكور في الآية ولكنه مذكور في كلام الذين كفروا الذي حكته الآية أرادوا به المؤمنين الأولين من المستضعفين مثل بلال وعمار بن ياسر، وعبد الله بن مسعود، وسمية، وزنّيرة ‏(‏بزاي معجمة مكسورة ونون مكسورة مشددة مشبعة وراء مهملة‏)‏ أمة رومية كانت من السابقات إلى الإسلام وممن عذبهنّ المشركون ومن أعتقهن أبو بكر الصديق‏.‏

وعن عروة بن الزبير قال‏:‏ عظماء قريش‏:‏ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتنا إليه زنّيرة، أي من جملة أقوالهم التي جمعها القرآن في ضمير سبقونا‏.‏

‏{‏إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ‏}‏‏.‏

عطف على جملة ‏{‏وقال الذين كفروا للذين آمنوا‏}‏ الآية، أي فقد استوفوا بمزاعمهم وجوه الطعن في القرآن فقالوا‏:‏ ‏{‏سحر مبين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 7‏]‏ وقالوا ‏{‏افتراه‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 8‏]‏، وقالوا ‏{‏لو كان خيراً ما سبقونا إليه‏}‏، وبقي أن يقولوا هو ‏{‏إفك قديم‏}‏‏.‏

وقد نبه الله على أن مزاعمهم كلها ناشئة عن كفرهم واستكبارهم بقوله‏:‏ ‏{‏قال الذين كفروا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وكفرتم به‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واستكبرتم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذ لم يهتدوا به‏}‏ الآية‏.‏

وإذ قد كانت مقالاتهم رامية إلى غرض واحد وهو تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم كان توزيع أسبابها على مختلف المقالات مشعراً بأن جميعها أسباب لِجميعها‏.‏

وضمير ‏{‏به‏}‏ عائد إلى القرآن واسم الإشارة راجع إليه‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ وإذ لم تحصل هدايتهم بالقرآن فيما مضى فسيستمرون على أن يقولوا هو ‏{‏إفك قديم‏}‏ إذ لا مطمع في إقلاعهم عن ضلالهم في المستقبل‏.‏ ولمّا كانت ‏{‏إذ‏}‏ ظرفاً للزمن الماضي وأضيفت هنا إلى جملة واقعة في الزمن الماضي كما يقتضيه النفي بحرف ‏{‏لَم‏}‏ تعين أن الإخبار عنه بأنهم سيقولون ‏{‏هذا إفك‏}‏ أنهم يقولونه في المستقبل، وهو مؤذن بأنهم كانوا يقولون ذلك فيما مضى أيضاً لأن قولهم ذلك من تصاريف أقوالهم الضالة المحكية عنهم في سور أخرى نَزلت قبل هذه السورة، فمعنى ‏{‏فسيقولون‏}‏ سيدومون على مقالتهم هذه في المستقبل‏.‏

فالاستقبال زمن للدوام على هذه المقالة وتكريرها مثله في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم ‏{‏وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 27‏]‏ فإنه قد هداه من قبل وإنما أراد سيديم هدايته إياي‏.‏ فليس المقصود إخبار الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنهم ‏{‏سيقولون هذا‏}‏ ولم يقولوه في الماضي إذ ليس لهذا الإخبار طائل‏.‏ وإذ قد حكي أنهم قالوا ما يرادف هذا في آيات كثيرة سابقة على هذه الآية وأنهم لا يقلعون عنه ولا حاجة إلى تقدير فعل محذوف تتعلق به ‏{‏إذ‏}‏‏.‏

وحيث قدم الظرف في الكلام على عامله أشرب معنى الشرط وهو إشراب وارد في الكلام، وكثير في ‏{‏إذ‏}‏، ولذلك دخلت الفاء في جوابه هنا في قوله‏:‏ ‏{‏فسيقولون‏}‏‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏إذْ‏}‏ للتعليل، وتتعلق ‏{‏إذ‏}‏ ب ‏(‏يقولون‏)‏ ولا تمنع الفاء من عمل ما بعدها فيما قبلها على التحقيق‏.‏ وإنما انتظمت الجملة هكذا لإفادة هذه الخصوصيات البلاغية، فالواو للعطف والمعطوف في معنى شرط والفاء لجواب الشرط‏.‏ وأصل الكلام‏:‏ وسيقولون هذا إفك قديم إذ لم يهتدوا به

وهذا التفسير جار على ما اختاره ابن الحاجب في «الأمالي» دون ما ذهب إليه صاحب «الكشاف»، فإنه تكلف له تكلفاً غير شاف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

أتبع إبطال ترّهاتهِمْ الطاعنة في القرآن بهذا الكلام المفيد زيادة الإبطال لمزاعمهم بالتذكير بنظير القرآن ومثيل له من كتب الله تعالى هو مشهور عندهم وهو «التوراة» مع التنويه بالقرآن ومزيته والنعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بها، فعطفت هذه الآية على التي قبلها لارتباطها بها في إبطال مزاعمهم وفي أنها ناظرة إلى قوله‏:‏ ‏{‏وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 10‏]‏ كما تقدم‏.‏

ففي قوله‏:‏ ‏{‏ومن قبله كتاب موسى‏}‏ إبطال لإحالتهم أن يُوحي الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم بأن الوحي سُنّة إلهاية سابقة معلومة أشهره «كتاب موسى»، أي «التوراة» وهم قد بلغتهم نبوءته من اليهود‏.‏ وضمير ‏{‏من قبله‏}‏ عائد إلى القرآن‏.‏ وتقديم ‏{‏من قبله‏}‏ للاهتمام بهذا الخبر لأنه محل القصد من الجملة‏.‏

وعبر عن «التّوراة» ب ‏{‏كتاب موسى‏}‏ بطريق الإضافة دون الاسم العلم وهو «التوراة» لما تؤذن به الإضافة إلى اسم موسى من التذكير بأنه كتاب أنزل على بشر كما أنزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم تلميحاً إلى مثار نتيجة قياس القرآن على «كتاب موسى» بالمشابهة في جميع الأحوال‏.‏

و ‏{‏إماماً ورحمة‏}‏ حالان من ‏{‏كتاب موسى‏}‏، ويجوز كونهما حالين من ‏{‏موسى‏}‏ والمعنيان متلازمان‏.‏

والإمام‏:‏ حقيقته الشيء الذي يجعله العامل مقياساً لعمل شيء آخر ويطلق إطلاقاً شائعاً على القدوة قال تعالى‏:‏ ‏{‏واجعلنا للمتقين إماماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 74‏]‏‏.‏ وأصل هذا الإطلاق استعارة صارت بمنزلة الحقيقة، واستعير الإمام لكتاب موسى لأنه يرشد إلى ما يجب عمله فهو كمن يرشد ويعظ، وموسى إمام أيضاً بمعنى القدوة‏.‏

والرحمة‏:‏ اسم مصدر لِصفة الراحم وهي من صفات الإنسان فهي، رقة في النفس تبعث على سَوق الخير لمن تتعدى إليه‏.‏ ووصف الكتاب بها استعارة لكونه سبباً في نفع المتبعين لما تضمنه من أسباب الخير في الدنيا والآخرة‏.‏

ووصف الكتاب بالمصدر مبالغة في الاستعارة، وموسى أيضاً رحمة لرسالته كما وصف محمد صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وهذا كتاب مصدق‏}‏ الخ هو المقيس على ‏{‏كتاب موسى‏}‏‏.‏ والإشارة إلى القرآن لأنه حَاضر بالذِكر فهو كالحاضر بالذات‏.‏

والمصدِّق‏:‏ المخبر بصدق غيره‏.‏ وحذف مفعول المصدِّق ليشمل جميع الكتب السماوية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏مصدقا لما بين يديه‏}‏، أي مخبر بأحقيّة كل المقاصد التي جاءت بها الكتب السماوية السالفة‏.‏ وهذا ثناء عظيم على القرآن بأنه احتوى على كل ما في الكتب السماوية وجاء مغنياً عنها ومبيناً لما فيها‏.‏ والتصديق يشعر بأنه حاكم على ما اختُلف فيه منها‏.‏ وما حُرّف فهمه بها قال تعالى‏:‏ ‏{‏مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏‏.‏

وزاده ثناء بكونه ‏{‏لساناً عربياً‏}‏، أي لغة عربيّة فإنها أفصح اللغات وأنفذها في نفوس السامعين وأحب اللغات للناس، فإنها أشرف وأبلغ وأفصح من اللغة التي جاء بها كتاب موسى، ومن اللغة التي تكلّم بها عيسى ودوّنها أتباعُه أصحاب الأناجيل‏.‏

وأدمج لفظ ‏{‏لسانا‏}‏ للدلالة على أن المراد بعربيته عربية ألفاظه لا عربيّة أخلاقه وتعاليمه لأن أخلاق العرب يومئذٍ مختلطة من محاسن ومساو فلما جاء الإسلام نفَى عنها المساوي، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم «إنما بعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق» وغلب إطلاق اللسان على اللغة لأن أشرف ما يستعمل فيه اللسان هو الكلام قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فإنما يسرناه بلسانك‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 97‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لتنذر الذين ظلموا‏}‏ يجوز أن يتعلق ب ‏{‏مصدقا لما بين يديه‏}‏ لأن ما سبقه مشتمل على الإنذار والبشارة والأحسن أن يتعلق بما في ‏{‏كتاب‏}‏ من معنى الإرشاد المشتمل على الإنذار والبشارة‏.‏ وهذا أحسن ليكون ‏{‏لتنذر‏}‏ علة للكتاب باعتبار صفته وحاله‏.‏

والذين ظلموا هم المشركون ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏ ويلحق بهم الذين ظلموا أنفسهم من المؤمنين ولذلك قوبل بالمحسنين وهم المؤمنون الأتقياء لأن المراد ظلم النفس ويقابله الإحسان‏.‏ والنّذارة مراتب والبشارة مثلها‏.‏

و ‏{‏بشرى‏}‏ عطف على ‏{‏مصدق‏}‏، والتقدير‏:‏ وهو بشرى للمحسنين، أي الكتاب، وهذا النظم يجعل الجملة بمنزلة الاحتراس والتتميم‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر والبزّي عن ابن كثير ويعقوبُ ‏{‏لتنذر‏}‏ بالمثناة الفوقية خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم فيحصل وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه منذر ووصفُ كتابه بأنه ‏{‏بشرى‏}‏ وفيه احتباك‏.‏ وقرأه الجمهور بالمثناة التحتية على أنه خبر عن الكتاب فإسناد الإنذار إلى الكتاب مجاز عقلي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏13‏)‏ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

استئناف بياني أوثر بصريحه جانب المؤمنين من المستمعين للقرآن لأنهم لما سمعوا البشرى تطلعوا إلى صفة البشرى وتعييننِ المحسنين ليضعوا أنفسهم في حق مواضعها، فأجيبوا بأن البشرى هي نَفي الخوف والحزن عنهم، وأنهم أصحاب الجنة وأن المحسنين هم الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا في أعمالهم‏.‏ وأشير بمفهومه إلى التعريض بالذين ظلموا فإن فيه مفهوم القصر من قوله‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب الجنة‏}‏‏.‏ وتعريفُهم بطريق الموصولية لما تؤذن به الصلة من تعليل كرامتهم عند الله لأنهم جمعوا حسنَ معاملتهم لربهم بتوحيده وخوفه وعبادته، وهو ما دل عليه ‏{‏قالوا ربنا الله‏}‏ إلى حسن معاملتهم أنفسهم وهو معنى ‏{‏ثم استقاموا‏}‏‏.‏

وجيء في صلة الموصول بفعل ‏{‏قالوا‏}‏ لإيجاز المقول وغنيته عن أن يقال‏:‏ اعترفوا بالله وحده وأطاعوه‏.‏ والمراد‏:‏ أنهم قالوا ذلك واعتقدوا معناه إذ الشأن في الكلام الصدق وعملوا به لأن الشأن مطابقة العمل للاعتقاد‏.‏

‏{‏ثمَّ‏}‏ للتراخي الرتبي‏:‏ وهو الارتقاء والتدرج، فإن مراعاة الاستقامة أشق من حصول الإيمان لاحتياجها إلى تكرر مراقبة النفس، فأما الإيمان فالنظر يقتضيه واعتقاده يحصل دفعة لا يحتاج إلى تجديد ملاحظة‏.‏ فهذا وجه التراخي الرتبي من جهة، وإن كان الإيمان أرقى درجة من العمل من حيث إنه شرط في الاعتداد بالعمل ولذلك عطف ب ‏{‏ثم‏}‏ التي للتراخي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أدراك ما العَقبة فَكّ رقبة إلى قوله‏:‏ ‏{‏ثمّ كان من الذين آمنوا‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 12 17‏]‏، فالاعتباران مختلفان باختلاف المقام المسوق فيه الكلام كما يظهر بالتأمل هنا وهناك، وتقدم نظيره في سورة فصّلت‏.‏

ودخول الفاء على خبر الموصول وهو ‏{‏فلا خوف عليهم‏}‏ لمعاملة الموصول معاملة الشرط كأنه قيل‏:‏ إن قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم، ومثله كثير في القرآن، فأفاد تسبب ذلك في أمنهم من الخوف والحزن‏.‏ و‏{‏عليهم‏}‏ خبر عن خوف، أي لا خوف يتمكن منهم ويصيبهم ويلحقهم‏.‏

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ لتخصيص المسند إليه بالخبر نحو‏:‏ ما أنا قلتُ هذا، أي أن الحزن منتف عنهم لا عن غيرهم، والمراد بالغير‏:‏ من لم يتصف بالإيمان والاستقامة في مراتب الكفر والعصيان، فجنس الخوف ثابت لمن عداهم على مراتب توقع العقاب حتى في حالة الوجل من عدم قبول الشفاعة فيهم ومن توقع حرمانهم من نفحَات الله تعالى‏.‏

واستحضارهم بطريق اسم الإشارة في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب الجنة‏}‏ للتنبيه على أنهم أحرياء بما يَرد من الإخبار عنهم بما بعد الإشارة لأجل الأوصاف المذكورة قبل اسم الإشارة، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ في أول سورة البقرة ‏(‏5‏)‏‏.‏

وأصحاب الجنة‏}‏ أدل على الاختصاص بالجنة من أن يقال‏:‏ أولئك في الجنة وأولئك لهم الجنة لما في ‏{‏أصحاب‏}‏ من معنى الاختصاص وما في الإضافة أيضاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏جزاء بما كانوا يعملون‏}‏ تصريح بما استفيد من تعليل الصلة في الخبر ومن اقتضاء اسم الإشارة جدارتهم بما بعده وما أفاده وصف أصحاب وما أفادته الإضافة، وهذا من تمام العناية بالتنويه بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏يَعْمَلُونَ * وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه إحسانا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً‏}‏

تطلب بعض المفسرين وجه مناسبة وقوع هذه الآية عقب التي قبلها، وذكر القرطبي عن القشيري أن وجه اتصال الكلام بعضه ببعض أن المقصود بيان أنه لا يبعد أن يستجيب بعض الناس للنبيء صلى الله عليه وسلم ويكفر به بعضهم كما اختلف حال الناس مع الوالدين‏.‏ وقال ابن عساكر‏:‏ لما ذكر الله التوحيد والاستقامة عطف الوصية بالوالدين كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن‏.‏ وكلا هذين القولين غير مقنع في وجه الاتصال‏.‏ ووجه الاتصال عندي أن هذا انتقال إلى قول آخر من أقوال المشركين وهو كلامهم في إنكار البعث وجدالهم فيه فإن ذلك من أصول كفرهم بمحل القصد من هذه الآيات قوله‏:‏ ‏{‏والذي قال لوالديه أفَ لكما إلى قوله‏:‏ ‏{‏خاسرين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 17، 18‏]‏‏.‏

وصيغ هذا في أسلوب قصة جدال بين والدين مؤمنين ووَلد كافر، وقصة جدال بين ولد مؤمن ووالدين كافرين لأن لذلك الأسلوب وقعا في أنفس السامعين مع ما روي أن ذلك إشارة إلى جدال جرى بين عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه وبين وَالديه كما سيأتي‏.‏ ولذلك تعيّن أن يكون ما قبله توطئة وتمهيداً لذكر هذا الجدال‏.‏

وقد روى الواحدي عن ابن عبّاس أن قوله‏:‏ ‏{‏ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً إلى قوله‏:‏ ‏{‏يوعدون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15، 16‏]‏ نزل في أبي بكر الصديق‏.‏ وقال ابن عطية وغير واحد‏:‏ نزلت في أبي بكر وأبيه ‏(‏أبي قحافة‏)‏ وأمه ‏(‏أم الخير‏)‏ أسلم أبواه جميعاً‏.‏ وقد تكررت الوصاية ببر الوالدين في القرآن وحرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عديدة فكان البر بالوالدين أجلى مظهراً في هذه الأمة منه في غيرها وكان من بركات أهلها بحيث لم يبلغ بر الوالدين مبلغاً في أمة مبلغه في المسلمين‏.‏ وتقدم ‏{‏ووصينا الإنسان بوالديه حسنا‏}‏ في سورة العنكبوت ‏(‏8‏)‏‏.‏

والمراد بالإنسان الجنس، أي وصينا الناس وهو مراد به خصوص الناس الذين جاءتهم الرسل بوصايا الله والذين آمنوا وعملوا الصالحات وذلك هو المناسب لقوله في آخرها ‏{‏أولئك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 16‏]‏ الآية‏.‏

وكذلك هو فيما ورد من الآيات في هذا الغرض كما في سورة العنكبوت وفي سورة لقمان بصيغة واحدة‏.‏

والحُسن‏:‏ مصدر حَسُن، أي وصيناه بحُسن المعاملة‏.‏ وقرأه الجمهور كذلك‏.‏ وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف ‏{‏إحسانا‏}‏‏.‏ والنصب على القراءتين إما بنزع الخافض وهو الباء وإما بتضمين ‏{‏وصيْنَا‏}‏ معنى‏:‏ ألزمنا‏.‏

والكره‏:‏ بفتح الكاف وبضمها مصدر أكره، إذا امتعض من شيء، أي كان حمله مكروهاً لها، أي حالة حمله وولادته لذلك‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏كَرها‏}‏ في الموضعين بفتح الكاف‏.‏ وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر ويعقوب بضم الكاف في الموضعين‏.‏

وانتصب ‏{‏كرها‏}‏ على الحال، أي كارهة أو ذات كَره‏.‏

والمعنى‏:‏ أنها حملته في بطنها متعبَة من حمله تعباً يجعلها كارهة لأحوال ذلك الحمل‏.‏ ووضعته بأوجاع وآلام جعلتها كارهة لوضعه‏.‏ وفي ذلك الحمل والوضع فائدة له هي فائدة وجوده الذي هو كمال حال الممكن وما ترتب على وجوده من الإيمان والعمل الصالح الذي به حصول النعم الخالدة‏.‏

وأشير إلى ما بعد الحمل من إرضاعه الذي به علاج حياته ودفع ألم الجوع عنه وهو عمل شاق لأمه فذُكرت مدة الحمل والإرضاع لأنها لطولها تستدعي صبرَ الأم على تحمل كلفة الجنين والرضيع‏.‏

والفصال‏:‏ الفطام، وذكر الفصال لأنه انتهاء مدة الرضاع فذكر مبدأ مدة الحمل بقوله‏:‏ ‏{‏وحملُه‏}‏ وانتهاءُ الرضاع بقوله‏:‏ ‏{‏وفصالُه‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ وحمله وفصاله بينهما ثلاثون شهراً‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏وفصْله‏}‏ بسكون الصاد، أي فصله عن الرضاعة بقرينة المقام‏.‏

ومن بديع معنى الآية جمع مدة الحمل إلى الفصال في ثلاثين شهراً لتُطابق مختلف مدد الحمل إذ قد يكون الحمل ستة أشهر وسبعة أشهر وثمانية أشهر وتسعة وهو الغالب، قيل‏:‏ كانوا إذا كان حمل المرأة تسعة أشهر وهو الغالب أرضعتْ المولود أحد وعشرين شهراً، وإذا كان الحمل ثمانية أشهر أرضعت اثنين وعشرين شهراً، وإذا كان الحمل سبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهراً، وإذا كان الحمل ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهراً، وذلك أقصى أمد الإرضاع فعوضوا عن نقص كل شهر من مدة الحمل شهراً زائداً في الإرضاع لأن نقصان مدة الحمل يؤثر في الطفل هزالاً‏.‏

ومن بديع هذا الطيّ في الآية أنها صالحة للدلالة على أن مدة الحمل قد تكون دون تسعة أشهر ولولا أنها تكون دون تسعة أشهر لحددته بتسعة أشهر لأن الغرض إظهار حق الأم في البر بما تحملته من مشقة الحمل فإن مشقة مدة الحمل أشدّ من مشقة الإرضاع فلولا قصد الإيماء إلى هذه الدلالة لكان التحديد بتسعة أشهر أجدرَ بالمقام‏.‏ وقد جعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه هذه الآية مع آية سورة البقرة ‏(‏233‏)‏ ‏{‏والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين‏}‏ دليلاً على أن الوضع قد يكون لستة أشهر، ونسب مثله إلى ابن عباس‏.‏ ورووا عن معمر بن عبد الله الجهني قال‏:‏ تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت لتمام ستة أشهر فانطلق زوجها إلى عثمان بن عفان فذكر له فبعث إليها عثمان، فلما أتي بها أمر برجمها فبلغ ذلك عَليّاً فأتاه فقال‏:‏ أما تقرأ القرآن قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ أما سمعت قوله‏:‏ وحملهُ وفصاله ثلاثون شهراً‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏حولين كامِلين‏}‏ فلم نجده بَقي إلا ستة أشهر‏.‏ فرجع عثمان إلى ذلك وهو استدلال بني على اعتبار أن شمول الصور النادرة التي يحتملها لفظ القرآن هو اللائق بكلام علاّم الغيوب الذي أنزله تبياناً لكل شيء من مثل هذا‏.‏

وتقدم الكلام على أحكام الحمل في سورة البقرة‏.‏

‏{‏شَهْراً حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أوزعنى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى والدى وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه وَأَصْلِحْ لِى فِى ذريتى إِنَّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ‏}‏‏.‏

‏{‏حتى‏}‏ ابتدائية ومعناها معنى فاء التفريع على الكلام المتقدم، وإذ كانت ‏{‏حتى‏}‏ لا يفارقها معنى الغاية كانت مؤذنة هنا بأن الإنسان تدرج في أطواره من وقت فصاله إلى أن بلغ أشده، أي هو موصًى بوالديه حسناً في الأطوار الموالية لفصاله، أي يوصيه وليّه في أطوار طفولته ثم عليه مراعاة وصية الله في وقت تكليفه‏.‏

ووقوع ‏{‏إذا‏}‏ بعد ‏{‏حتى‏}‏ ليرتب عليها توقيت ما بعد الغاية من الخبر، أي كانت الغاية وقت بلوغه الأشدّ، وقد تقدمت نظائر ذلك قريباً وبعيداً منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إذا فشلتم‏}‏ في سورة آل عمران ‏(‏152‏)‏‏.‏

ولما كان إذا‏}‏ ظرفاً لزمن مستقبل كان الفعل الماضي بعدها منقلباً إلى الاستقبال، وإنما صيغ بصيغة الماضي تشبيهاً للمؤكد تحصيله بالواقع، فهو استعارة‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ تجريد للاستعارة، والمعنى‏:‏ حتى يبلغ أشده، أي يستمر على الإحسان إليهما إلى أن يبلغ أشده فإذا بلغه ‏{‏قال رب أوزِعْني‏}‏، أي طلب العون من الله على زيادة الإحسان إليهما بأن يلهمه الشكر على نعمه عليه وعلى والديه‏.‏ ومن جملة النعم عليه أن ألهمه الإحسان لِوالديه‏.‏ ومن جملة نعمه على والديه أن سخر لهما هذا الولد ليحسن إليهما، فهاتان النعمتان أول ما يتبادر عن عموم نعْمة الله عليه وعلى والديه لأن المقام للحديث عنهما‏.‏

وهذا إشارة إلى أن الفعل المؤقت ببلوغ الأشد وهو فعل ‏{‏قال ربّ أوزعني‏}‏ من جملة ما وُصِي به الإنسان، أي أن يحسن إلى والديه في وقت بلوغه الأشد‏.‏ فالمعنى‏:‏ ووصينا الإنسان حُسناً بوالديه حتى في زمن بلوغه الأشد، أي أن لا يفتر عن الإحسان إليهما بكل وجه حتى بالدعاء لهما‏.‏ وإنما خص زمان بلوغه الأشد لأنه زمن يكثر فيه الكلف بالسعي للرزق إذ يكون له فيه زوجة وأبناء وتكثر تكاليف المرأة فيكون لها فيه زوج وبيت وأبناء فيكونان مظنة أن تشغلهما التكاليف عن تعهد والديهما والإحسان إليهما فنبها بأن لا يفتُرا عن الإحسان إلى الوالدين‏.‏

ومعنى ‏{‏قال ربّ أوزعني‏}‏ أنه دعا ربه بذلك، ومعناه‏:‏ أنه مأمور بالدعاء إليهما بأنه لا يشغله الدعاء لنفسه عن الدعاء لهما وبأنه يحسن إليهما بظهر الغيب منهما حين مناجاته ربه، فلا جرم أن إحسانه إليهما في المواجهة حاصل بفحوى الخطاب كما في طريقة الفحوى في النهي عن أذاهما بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تقل لهما أف‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وحاصل المعنى‏:‏ أن الله أمر بالإحسان إلى الوالدين في المشاهدة والغيبة وبجميع وسائل الإحسان الذي غايته حصول النفع لهما، وهو معنى قوله تعالى‏:‏

‏{‏وقل رب ارحمهما كما رَبَّياني صغيرا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 24‏]‏ وأن الله لمّا أمر بالدعاء للأبوين وعد بإجابته على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله‏:‏ ‏"‏ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث‏:‏ صدقة جارية، وعلم بثه في صدور الرجال، وولد صالح يدعو له بخير ‏"‏ وما شُكر الولد ربه على النعمة التي أنعمها الله على والديه إلا من باب نيابته عنهما في هذا الشكر، وهو من جملة العمل الذي يؤديه الولد عن والديه‏.‏

وفي حديث الفضل بن عباس أن المرأة الخثعمية قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع «إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفيجزِئ أن أحُجّ عنه، قال‏:‏ ‏"‏ نعم حُجِّي عنه ‏"‏، وهو حج غير واجب على أبيها لعجزه‏.‏

والأشُدّ‏:‏ حالة اشتداد القوى العقلية والجسدية وهو جمع لم يسمع له بمفرد‏.‏ وقيل مفرده‏:‏ شِدّة بكسر الشين وهاء التأنيث مثل نعمة جمعها أنْعُم، وليس الأشد اسماً لعدد من سني العمر وإنما سِنُو العمر مظنة للأشُدّ‏.‏ ووقتُه ما بعد الثلاثين سنة وتمامه عند الأربعين سنة ولذلك عطف على ‏{‏بلَغ أشده‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏وبلغ أربعين سنة‏}‏ أي بلغ الأشد ووصل إلى أكمله فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما بلغ أشده واستوى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 14‏]‏، وتقدم في سورة يوسف، وليس قوله‏:‏ ‏{‏وبلغ أربعين سنة‏}‏ تأكيداً لقوله ‏{‏بلغ أشده‏}‏ لأن إعادة فعل بلغ تبعد احتمال التأكيد وحرف العطف أيضاً يبعد ذلك الاحتمال‏.‏

و ‏{‏أوزعني‏}‏‏:‏ ألهمني‏.‏ وأصل فعل أوزع الدلالة على إزالة الوَزْع، أي الانكفاف عن عمل ما، فالهمزة فيه للإزالة، وتقدم في سورة النمل‏.‏

و ‏{‏نعمتك‏}‏ اسم مصدر مضاف يعمّ، أي ألهمني شكر النعم التي أنعمت بها علي وعلى والدي من جميع النعم الدينية كالإيمان والتوفيق ومن النعم الدنيوية كالصحة والجِدة‏.‏

وما ذكر من الدعاء لذريته بقوله‏:‏ ‏{‏وأصلح لي في ذريتي‏}‏ استطراد في أثناء الوصاية بالدعاء للوالدين بأن لا يغفل الإنسان عن التفكر في مستقبله بأن يصرف عنايته إلى ذريته كما صرفها إلى أبويه ليكون له من إحسان ذريته إليه مثل ما كان منه لأبويه وإصلاح الذرية يشمل إلهامهم الدعاء إلى الوالد‏.‏

وفي إدماج تلقين الدعاء بإصلاح ذريته مع أن سياق الكلام في الإحسان إلى الوالدين إيماء إلى أن المرء يلقى من إحسان أبنائه إليه مثل ما لقي أبواه من إحسانه إليهما، ولأن دعوة الأب لابنه مرجوة الإجابة‏.‏ وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن‏:‏ دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم ‏"‏، وفي رواية «لولده» وهو حديث حسن متعددة طرقه‏.‏

واللام في ‏{‏وأصلح لي‏}‏ لام العلة، أي أصلح في ذريتي لأجلي ومنفعتي كقوله تعالى‏:‏

‏{‏ألم نشرح لك صدرك‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏‏.‏ ونكتة زيادة هذا في الدعاء أنه بعد أن أشار إلى نعم الله عليه وعلى والديه تعرض إلى نفحات الله فسأله إصلاح ذريته وعرَّض بأن إصلاحهم لفائدته، وهذ تمهيد لبساط الإجابة كأنه يقول‏:‏ كما ابتدأتني بنعمتك وابتدأت والديّ بنعمتك ومتعتهما بتوفيقي إلى برهما، كَمِّلْ إنعامك بإصلاح ذريتي فإن إصلاحهم لي‏.‏ وهذه ترقيات بديعة في درجات القرب‏.‏

ومعنى ظرفية ‏{‏في ذريتي‏}‏ أن ذريته نزلت منزلة الظرف يَستقر فيه ما هو به الإصلاح ويحتوي عليه، وهو يفيد تمكن الإصلاح من الذرية وتغلغله فيهم‏.‏ ونظيره في الظرفية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلها كلمة باقية في عقبه‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏إني تبت إليك‏}‏ كالتعليل للمطلوب بالدعاء تعليل توسل بصلة الإيمان والإقرار بالنعمة والعبودية‏.‏ وحرف ‏(‏إنَّ‏)‏ للاهتمام بالخبر كما هو ظاهر، وبذلك يستعمل حرف ‏(‏إنَّ‏)‏ في مقام التعليل ويغني غناء الفاء‏.‏

والمراد بالتوبة‏:‏ الإيمان لأنه توبة من الشرك، وبكونه من المسلمين أنه تبع شرائع الإسلام وهي الأعمال‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏من المسلمين‏}‏ دون أن يقول‏:‏ وأسلمت كما قال‏:‏ ‏{‏تُبت إليك‏}‏ لما يؤذن به اسم الفاعل من التلبس بمعنى الفعل في الحال وهو التجدد لأن الأعمال متجددة متكررة، وأما الإيمان فإنما يحصل دفعة فيستقر لأنه اعتقاد، وفيه الرعي على الفاصلة‏.‏ هذا وجه تفسير الآية بما تعطيه تراكيبها ونظمها دون تكلف ولا تحمّل، وهي عامة لكل مسلم أهل لوصاية الله تعالى بوالديه والدعاء لهما إن كانا مؤمنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

جيء باسم الإشارة للغرض الذي ذكرناه آنفاً عند قوله‏:‏ ‏{‏أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وكونه إشارة جمع ومخبرة عنه بألفاظ الجمع ظاهر في أن المراد بالإنسان من قوله‏:‏ ‏{‏ووصينا الإنسان‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏ غير معيّن بل المراد الجنس المستعمل في الاستغراق كما قدمناه‏.‏ والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما قبلها من الوصف والحثّ يُحدث ترقب السامع لمعرفة فائدة ذلك فكان قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين يتقبل عنهم‏}‏ إلى آخره جواباً لترقية‏.‏

وعموم ‏{‏أحسنُ ما عملوا‏}‏ يكسب الجملة فائدة التذييل، أي الإحسان بالوالدين والدعاء لهما وللذرية من أفضل الأعمال فهو من أحسن ما عملوا‏.‏ وقد تُقبل منهم كل ما هو أحسن ما عملوا‏.‏ والتقبل‏:‏ ترتب آثار العمل من ثواب على العمل واستجابة للدعاء‏.‏ وفي هذا إيماء إلى أن هذا الدعاء مرجوّ الإجابة لأن الله تولى تلقينه مثل الدعاء الذي في سورة الفاتحة ودعاء آخر سورة البقرة‏.‏

وعدّي فعل ‏{‏يتقبل‏}‏ بحرف ‏(‏عَن‏)‏، وحقه أن يعدّى بحرف ‏(‏مِن‏)‏ تغليباً لجانب المدعو لهم وهم الوالدان والذريّة، لأن دعاء الوَلد والوالد لأولئك بمنزلة النيابة عنهم في عبادة الدعاء وإذا كان العمل بالنيابة متقبلاً علم أن عمل المرء لنفسه متقبل أيضاً ففي الكلام اختصار كأنه قيل‏:‏ أولئك يتقبل منهم ويتقبل عن والديْهم وذريتهم أحسن ما عملوا‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏يتقبل‏}‏ و‏{‏يتجاوز‏}‏ بالياء التحتية مضمومة مَبْنيين للنائب و‏{‏أحسن‏}‏ مرفوع على النيابة عن الفاعل ولم يذكر الفاعل لظهور أن المتقبل هو الله وقرأهما حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بنونين مفتوحتين ونصب ‏{‏أحسنَ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏في أصحاب الجنة‏}‏ في موضع الحال من اسم الإشارة، أي كائنين في أصحاب الجنة حين يتقبل أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم لأن أصحاب الجنة متقبل أحسن أعمالهم ويتجاوز عن سيئاتهم، وذكر هذا للتنويه بهم بأنهم من الفريق المشَّرفين كما يقال‏:‏ أكرمه في أهل العلم‏.‏

وانتصب ‏{‏وعْدَ الصدق‏}‏ على الحال من التقبل والتجاوز المفهوم من معاني ‏{‏يتقبل‏}‏ و‏{‏يتجاوز‏}‏، فجاء الحال من المصدر المفهوم من الفعل كما أعيد عليه الضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏، أي العدل أقرب للتقوى‏.‏

والوعد‏:‏ مصدر بمعنى المفعول، أي ذلك موعدهم الذي كانوا يوعدونه‏.‏

وإضافة ‏{‏وعد‏}‏ إلى ‏{‏الصدق‏}‏ إضافةٌ على معنى ‏(‏من‏)‏، أي وعدٌ من الصدق إذ لا يتخلف‏.‏ و‏{‏الذي كانوا يوعدون‏}‏ صفة وعْد الصدق، أي ذلك هو الذي كانوا يوعدونه في الدنيا بالقرآن في الآيات الحاثة على بِرّ الوالدين وعلى الشكر وعلى إصلاح الذرية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

هذا الفريق المقصود من هذه الآيات المبدوءة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ووصينا الإنسان‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وهذا الفريق الذي كفر بربه وأساء إلى والديه، وقد عُلم أن والديه كانا مؤمنين من قوله‏:‏ ‏{‏أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي‏}‏ الآية‏.‏

فجملة ‏{‏والذي قال لوالديه‏}‏ الأحسن أن تكون معطوفة على جملة ‏{‏وإذا تُتْلى عليهم آياتنا بينات‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 7‏]‏ الخ انتقال إلى مقالة أخرى من أصول شركهم وهي مقالة إنكار البعث‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏الذي قال لوالديه‏}‏ فالوجه جعله مفعولاً لفعل مقدر تقديره‏:‏ واذكر الذي قال لوالديه، لأن هذا الوجه يلائم كل الوجوه‏.‏ ويجوز جعله مبتدأ وجملة ‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول في أمم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 18‏]‏ خبراً عنه على أحد الوجهين الاثنين في مرجع اسم الإشارة من قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول‏}‏‏.‏

و ‏{‏الذي‏}‏ هنا اسم صادق على الفريق المتصف بصلته‏.‏ وهذا وصف لفئة من أبناء من المشركين أسلم آباؤهم ودعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم وأغلظوا لهم القول فضمّوا إلى الكفر بشنيع عقوق الوالدين وهو قبيح لمنافاته الفطرة التي فطر الله الناس عليها لأن حال الوالدين مع أبنائهما يقتضي معاملتهما بالحسنى، ويدل لعدم اختصاص قوله في آخرها ‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول‏}‏ إلى آخره‏.‏

والذي عليه جمهور المفسرين‏:‏ أن الآية لا تعْني شخصاً معينا وأن المراد منها فريق أسلم آباؤهم ولم يسلموا حينئذٍ‏.‏ وعن ابن عباس ومروانَ بن الحكم ومجاهد والسدّي وابن جريج أنّها نزلت في ابننٍ لأبي بكر الصديق واسمه عبد الكعبة الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبدَ الرحمان بعد أن أسلم عبد الرحمان قالوا‏:‏ كان قبل الهجرة مُشركاً وكان يدعوه أبوه أبو بكر وأمه أم رُومان إلى الإسلام ويذكّرانه بالبعث، فيردّ عليهما بكلام مثل ما ذكره في هذه الآية‏.‏ ويقول‏:‏ فأيْن عبد الله بن جُدعان، وأين عثمان بن عمرو، وأيْنَ عامر بن كعب، ومشايخُ قريش حتى أسألهم عمّا يقول محمد‏.‏ لكن ليست الآية خاصة به حتى تكون نازلة فيه، وبهذا يؤول قول عائشة رضي الله عنها لما قال مروان بن الحكم لعبد الرحمان هو الذي يقول الله فيه‏:‏ ‏{‏والذي قال لوالِدَيْه أفّ لكما‏}‏‏.‏ وذلك في قصة إشارة عبد الرحمان على مروان أخذه البيعة ليزيد بن معاوية بالعهد له بالخلافة‏.‏

ففي «صحيح البخاري» في كتاب التفسير عن يوسف بن ماهك أنه قال‏:‏ «كان مروان ابن الحكم على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايَع له بعد أبيه أي بولاية العهد فقال له عبد الرحمان بن أبي بكر أهِرَقْليَّة أي اجعلتموها وراثة مثل سلطنة هرقل فقال‏:‏ خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه، فقال مروان‏:‏ إن هذا الذي أنزل الله فيه ‏{‏والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني‏}‏، فقالت عائشة من وراء الحجاب‏:‏ ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن إلا أن الله أنزل عذري أي براءتي‏.‏

وكيف يكون المراد ب ‏{‏الذي قال لوالديه أف لكما‏}‏ عبد الرحمان بن أبي بكر وآخر الآية يقول‏:‏ ‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول إلى خاسرين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 18‏]‏ فذَكر اسم الإشارة للجَمع، وقضى على المتحدَّث عنهم بالخسران، ولم أقف على من كان مشركاً وكان أبواه مؤمنين‏.‏ وأيَّاماً كان فقد أسلم عبد الرحمان قبل الفتح فلما أسلم جبّ إسلامُه ما قبله وخرج من الوعيد الذي في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول‏}‏ الآية، لأن ذلك وعيد وكل وعيد فإنما هو مقيد تحققه بأن يموت المتوعَّد به غير مؤمن وهذا معلوم بالضرورة من الشريعة‏.‏ وتلقب عند الأشاعرة بمسألة الموافاة، على أنه قيل إن الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ عائدة إلى ‏{‏الأولين‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏ما هذا إلا أساطير الأولين‏}‏ كما سيأتي‏.‏

وأفَ‏:‏ اسم فعل بمعنى‏:‏ أتضجَّر، وتقدم الكلام عليه في سورة الإسراء وفي سورة الأنبياء، وهو هنا مستعمل كناية عن أقل الأذى فيكون الذين يؤذون والديهم بأكثر من هذا أوغلُ في العقوق الشنيع وأحرى بالحكم بدلالة فحوى الخطاب على ما تقرر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تقل لهما أُفّ‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏23‏)‏‏.‏ وقرأ نافع وحفص عن عاصم أفَ‏}‏ بكسر الفاء منوناً‏.‏ وقرأه ابن كثير وابن عامر ويعقوب ‏{‏أفَّ‏}‏ بفتح الفاء غير منون‏.‏ وقرأه الباقون أفِّ بكسر الفاء غير منون، وهي لغات ثلاث فيه‏.‏

واعلم أن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذي قال لوالديه أفّ لكما‏}‏ مُحَسّنَ الاتزان فإنه بوزن مصراع من الرمل عَروضه محذوفة، وضَربه محذوف، وفيه الخبن والقبض، ويزاد فيه الكف على قراءة غير نافع وحفص‏.‏

والاستفهام في ‏{‏أتعدانِني أن أخرج‏}‏ إنكار وتعجب‏.‏ والإخراج‏:‏ البعث بعد الموت‏.‏

وجعلت جملة الحال وهي ‏{‏وقد خلت القرون من قبلي‏}‏ قيداً لمنتهى الإنكار، أي كيف يكون ذلك في حال مُضيّ القرون‏.‏

والقرون‏:‏ جمع قرن وهو الأمة التي تَقاربَ زمان حياتها، وفي الحديث «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم» الحديث، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القُرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 78‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أنه أحال أن يخرج هو من الأرض بعد الموت، وقد مضت أمم كثيرة وطال عليها الزمن فلم يخرج منهم أحد‏.‏ وهذا من سوء فهمه في معنى البعث أو من المغالطة في الاحتجاج لأن وعد البعث لم يوقت بزمن معين ولا أنه يقع في هذا العالم‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أتعدانِني‏}‏ بنونين مفكّكين وقرأه هشام عن ابن عامر بإدغام النونين‏.‏

ومعنى ‏{‏يستغيثان الله‏}‏ يطلبان الغوث من الله، أي يطلبان من الله الغوث بأن يهديه، فالمعنى‏:‏ يستغيثان الله له‏.‏

وليست جملة ‏{‏ويلك آمِنْ‏}‏ بياناً لمعنى استغاثتهما ولكنها مقول قول محذوف يدل عليه معنى الجملة‏.‏ وكلمة ‏{‏ويلك‏}‏ كلمة تهديد وتخويف‏.‏

والويل‏:‏ الشر‏.‏ وأصل ويلك‏:‏ ويْل لك كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 79‏]‏، فلما كثر استعماله وأرادوا اختصاره حذفوا اللام ووصلوا كاف الخطاب بكلمة ‏(‏ويل‏)‏ ونصبوه على نزع الخافض‏.‏

وفعل ‏{‏آمِن‏}‏ منزل منزلة اللازم، أي اتصف بالإيمان وهو دعوة الإسلام، وجملة ‏{‏إن وعد الله حق‏}‏ تعليل للأمر بالإيمان وتعريض له بالتهديد من أن يحق عليه وعد الله‏.‏

والأساطير‏:‏ جمع أسطورة وهي القصة وغلب إطلاقها على القصة الباطلة أو المكذوبة كما يقال‏:‏ خرافة، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين‏}‏ في سورة النحل ‏(‏24‏)‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وقالوا أساطير الأولين‏}‏ اكتتبها في سورة الفرقان ‏(‏5‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

يجوز أن يكون اسم الإشارة مشيراً إلى الذي قال لديه هذه المقالة لما علمت أن المراد به فريق، فجاءت الإشارة إليه باسم إشارة الجماعة بتأويل الفريق‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى ‏{‏الأوَّلين‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 17‏]‏، وهم الذين روي أن ابنَ أبي بكر ذكرَهم حين قال‏:‏ فأين عبد الله بن جُدعان، وأيْنَ عثمان بن عمرو، ومشائخ قريش كما تقدم آنفاً‏.‏ واستحضار هذا الفريق بطريق اسم الإشارة لزيادة تمييز حالهم العجيبة‏.‏

وتعريف ‏{‏القول‏}‏ تعريف العهد وهو قول معهود عند المسلمين لما تكرر في القرآن من التعبير عنه بالقول في نحو آية ‏{‏قال فالحق والحق أقول لأملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 84، 85‏]‏، ونحو قوله‏:‏ ‏{‏أفمن حقّ عليه كلمة العذاب‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 19‏]‏، فإن الكلمة قول، ونحو قوله‏:‏ ‏{‏لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 7‏]‏ الآية‏.‏ وإطلاقه في هذه الآية رشيق لصلوحية‏.‏

وإقحام ‏{‏كانوا خاسرين‏}‏ دون أن يقال‏:‏ إنهم خاسرون، للإشارة إلى أن خسرانهم محقق فكني عن ذلك بجعلهم كائنين فيه‏.‏

وتأكيد الكلام بحرف ‏(‏إنَّ‏)‏ لأنهم يظنون أن ما حصل لهم في الدنيا من التمتع بالطيبات فوزاً ليس بعده نكد لأنهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء، فشبهت حالة ظنهم هذا بحال التاجر الذي قل ربحه من تجارته فكان أمره خسراً، وقد تقدم غير مرة منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما ربحت تجارتهم‏}‏ في البقرة ‏(‏16‏)‏‏.‏

وإيراد فعل الكون بقوله‏:‏ كانوا خاسرين‏}‏ دون الاقتصار على ‏{‏خاسرين‏}‏ لأن ‏(‏كان‏)‏ تدل على أن الخسارة متمكنة منهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

عطف على الكلام السابق من قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين يتقبل عنهم‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 16‏]‏ ثم قوله‏:‏ ‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 18‏]‏ الخ‏.‏

وتنوين ‏(‏كلَ‏)‏ تنوين عوض عما تضاف إليه ‏{‏كل‏}‏ وهو مقدر يعلم من السياق، أي ولكل الفريقين المؤمن البار بوالديه والكافر الجامع بين الكفر والعقوق درجات، أي مراتب من التفاوت في الخبر بالنسبة لأهل جزاء الخير وهم المؤمنون، ودركات في الشر لأهل الكفر‏.‏ والتعبير عن تلك المراتب بالدرجات تغليب لأن الدرجة مَرتَبَة في العلو وهو علوّ اعتباري إنما يناسب مراتب الخير وأما المرتبة السفلى فهي الدركة قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن المنافقين في الدَّرَك الأسفل من النار‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 145‏]‏‏.‏ ووجه التغليظ التنويه بشأن أهل الخير‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏مما عملوا‏}‏ تبعيضية‏.‏ والمراد ب ‏{‏ما عملوا‏}‏ جَزاء ما عملوا فيقدر مضاف‏.‏ والدرجات‏:‏ مراتب الأعمال في الخير وضده التي يكون الجزاء على وفقها‏.‏ ويجوز كون ‏(‏من‏)‏ ابتدائية، وما عملوا نفس العمل فلا يقدر مضاف والدرجات هي مراتب الجزاء التي تكون على حسب الأعمال، ومقادير ذلك لا يعلمها إلا الله وهي تتفاوت بالكثرة وبالسبق وبالخصوص، فالذي قال لوالديه أف لكما وأنكر البعث ثم أسلم بعد ذلك قد يكون هو دون درجة الذي بادر بالإسلام وبِرّ والديه وما يعقب إسلامَه من العمل الصالح‏.‏ وكل ذلك على حسب الدرجات‏.‏

وأشار إلى أن جزاء تلك الدرجات كلها بقدر يعلمه الله، وقوله بعده‏:‏ ‏{‏ولنوفيهم أعمالهم‏}‏ هو علة لمحذوف دل عليه الكلام وتقديره‏:‏ قدرنا جزاءهم على مقادير درجاتهم لنوفيهم جزاء أعمالهم، أي نجازيهم تاماً وافياً لا غبن فيه‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ولنوفيهم‏}‏ بنون العظمة‏.‏ وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وهشام عن ابن عَامر ويعقوب بالتحتية مراداً به العَود إلى الله تعالى لأنه معلوم من المقام‏.‏

وجملة ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ احتراس منظور فيه إلى توفية أحد الفريقين وهو الفريق المستحق للعقوبة لئلا يُحسب أن التوفية بالنسبة إليهم أن يكون الجزاء أشد مما تقتضيه أعمالهم‏.‏